
استثمارك: “فقع” أم نخلة؟
كانت مجالس الشباب في حائل تعجّ بالحديث عن “الصفقات السريعة”. العملات الرقمية ترتفع بجنون، وأسهم شركات لا يعرفون حتى اسمها تحقق أرباحًا خيالية. كان “نواف”، الشاب الطموح، يرى أقرانه يتحدثون بحماس عن “الفقع” (الكَمأة)، ذلك الكنز الصحراوي الذي يظهر فجأة ويجلب ثروة سريعة لمن يعثر عليه. كانت العملات المشفرة هي “فقع” هذا الجيل؛ استثمار محفوف بالمخاطر، لكن بريقه يجذب الكثيرين أملًا في تحقيق الثراء بين عشية وضحاها.
شعر نواف بالضغط. هل يضع مدخراته البسيطة في هذه “الفقعة” الرقمية وينتظر ضربة حظ؟ أم أن هناك طريقًا آخر؟ في نهاية أحد الأسابيع، أثناء جلوسه مع جده في مزرعته، كان يستمع إليه وهو يتحدث بحب عن نخلة “الفنخاء”، وهي من تمور حائل النادرة. قال الجد بحكمة: “يا ولدي، الفقع يظهر يومًا ويختفي أيامًا، ومن يلاحقه قد يرجع خالي الوفاض. لكن النخلة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تُطعمك وتُطعم أبناءك، وتحتاج منك صبرًا ورعاية لتجني ثمرها عامًا بعد عام”.
هذه الكلمات البسيطة كانت نقطة تحول في تفكير نواف. أدرك أن الاستثمار الحقيقي لا يشبه البحث العشوائي عن “فقع”، بل يشبه غرس “نخلة” تحتاج إلى جهد ورؤية، لكن ثمارها مضمونة ومستدامة بإذن الله.
حكمة الأجداد في عالم متسارع
إن الفرق بين عقلية “الباحث عن الفقع” وعقلية “زارع النخلة” هو جوهر الفرق بين المضاربة والاستثمار. المضاربة قائمة على الحظ والتقلبات السريعة، وغالبًا ما تكون محفوفة بـ”الغرر” (الجهالة المفرطة)، وهو ما حذرت منه مبادئ اقتصادنا الإسلامي. أما الاستثمار الحقيقي، فهو يقوم على أسس واضحة: وضع المال في أصول منتجة، لها قيمة حقيقية، وتنمو مع الوقت والجهد.
في عالم اليوم المتسارع، من السهل الانجراف وراء وعود الربح السريع، لكن حكمة الأجداد تذكرنا دائمًا بقيمة الأصول الثابتة والملموسة. الاستثمار ليس مجرد مغامرة مالية، بل هو قرار استراتيجي لبناء المستقبل.
الاستثمار ليس مالًا فقط.. بل رؤية وجهد
قرر نواف أن يستثمر في “ذهب” حائل الحقيقي: التمور. لكنه لم يفعل ذلك بالطريقة التقليدية. لقد أدرك أن حتى الاستثمار في أصل تقليدي يحتاج إلى فكر عصري.
- البداية كانت صعبة: واجه سخرية بعض أصدقائه الذين رأوا في فكرته “بطئًا” و”تخلفًا” عن ركب التقنية. كما واجه تحديات لوجستية في كيفية تغليف التمور الفاخرة بشكل جذاب، وكيفية شحنها لمدن أخرى دون أن تتأثر جودتها.
- التعلم والمثابرة: بدلًا من الاستسلام، أمضى نواف لياليه يتعلم. حضر دورات عن التجارة الإلكترونية، وشاهد فيديوهات عن أساليب التسويق الرقمي، واستشار المزارعين الكبار لمعرفة أفضل طرق تخزين التمور.
- الابتكار في المنتج: لم يكتفِ ببيع التمر الخام. بل قام بإنشاء علامة تجارية صغيرة، وأطلق منتجات مبتكرة مثل “دبس الفنخاء الفاخر”، و”معمول التمر الصحي بدون سكر مضاف”، وصمم علب هدايا أنيقة تستهدف سوق الشركات والمناسبات. لقد حول التمر من مجرد سلعة غذائية إلى منتج ذي قيمة مضافة.
لقد كان استثماره ليس في التمر فقط، بل في المعرفة والابتكار وبناء علامة تجارية.
من النجاح الفردي إلى الأثر المجتمعي
بدأت ثمار “نخلة” نواف تظهر تدريجيًا. الطلبات التي بدأت من الأقارب والأصدقاء في الرياض، سرعان ما توسعت لتشمل عملاء في مختلف مناطق المملكة، ثم بدأت تصل طلبات من خارجها. لم يكن نجاح نواف فرديًا، بل كان له أثر أوسع:
- دعم المزارعين المحليين: أصبح يشتري التمور من عدة مزارعين في حائل بأسعار عادلة، مما ساهم في دعمهم.
- خلق فرص عمل: مع نمو مشروعه، احتاج إلى توظيف شباب وشابات من منطقته للمساعدة في التغليف والتسويق وخدمة العملاء.
- الترويج للمنتج المحلي: ساهم في تسليط الضوء على جودة تمور حائل بشكل عصري، مما يتماشى مع أهداف “رؤية المملكة 2030” في تنويع الاقتصاد ودعم المنتجات الوطنية.
لقد أثبت نواف أن الاستثمار الأذكى هو الذي ينبع من بيئتك، ويحل مشكلة حقيقية، ويخلق قيمة لك ولمجتمعك. إن الثروة الحقيقية لا تُعثر عليها فجأة تحت الرمال، بل تُزرع بصبر، وتُسقى بجهد، وتنمو لتصبح أصلًا ثابتًا يمتد أثره لأجيال. فابحث في محيطك عن “نخلتك”، وابدأ في رعايتها اليوم.