
صفقة العمر.. أم خسارة البركة؟
كان “أبو ياسر”، مسؤول المشتريات في شركة متوسطة، رجلاً بسيطاً ورث عن أبيه الذي عمل في السوق المركزي بجدة مبدأً واحدًا: “المال الحلال بركة ولو كان قليل، ويورث عيالك الطِّيب”. لكن هذا المبدأ وُضع على المحك في أصعب الظروف. كانت ابنته “ليلى” تمر بأزمة صحية تتطلب جهازًا طبيًا مرتفع الثمن، ومدخرات الأسرة لم تكن كافية لتغطيته. كان القلق ينهش قلبه كل ليلة وهو يرى ابنته تتألم.
في خضم هذا الضيق، جاءه عرضٌ من أحد الموردين بدا وكأنه طوق نجاة. قال له بابتسامة ماكرة: “يا أبو ياسر، مرّر عقد بضاعتي، صحيح أنها ليست الأفضل، لكن سأعطيك عمولة كبيرة تحل كل مشاكلك وتزيد على حاجتك. لن يعلم أحد، والأمور ستسير على ما يرام”.
شعر أبو ياسر أن الأرض تهتز من تحته. المبلغ المعروض كان كافيًا ليس فقط لعلاج ليلى، بل لشراء السيارة الجديدة التي يحلم بها أبناؤه. دار في رأسه صراع عنيف. من جهة، صورة ابنته المتألمة وحاجتها الماسة، ومن جهة أخرى، صدى كلمات أبيه عن “لقمة الحلال” وقصص سمعها في المجالس عن بيوت تشتتت ونُزعت منها البركة بسبب الكسب المشبوه. قضى لياليه يفكر: “ماذا لو عرف أبنائي؟ هل سأربيهم على الصدق والأمانة بلساني، بينما أمارس عكس ذلك بفعلي؟ هل سيجلب هذا المال السعادة لبيتي، أم سينزع منه السكينة إلى الأبد؟”.
النزاهة ليست مجرد مبدأ.. بل هي حصن الأمان
إن ما واجهه أبو ياسر هو جوهر التحدي الذي يواجهنا جميعًا. فالنزاهة ليست مجرد الامتناع عن الحرام الواضح، بل هي “البُعدُ عن السُّوءِ” و”الترفّعُ عما يُذَمُّ” في كل جوانب حياتنا المالية. إنها تعني اكتساب المال من غير ظلم أو مهانة، وإنفاقه في وجوهه الصحيحة.
عندما تغيب النزاهة، حتى في الأمور التي تبدو صغيرة، تبدأ البركة بالرحيل. المال الذي يأتي من شبهة يفقد قيمته الحقيقية، ويفتح أبوابًا لمصاريف غير متوقعة، ويورث قلقًا دائمًا خوفًا من انكشاف الأمر. إن غياب النزاهة هو أول خطوة نحو “فقدان الاتزان المالي” و”الاضطراب وقت الأزمات”، لأن الأساس الذي بُني عليه المال لم يكن متينًا. المحفظة النظيفة لا تضمن لك الثراء الفاحش، لكنها تضمن لك راحة البال، وهي أثمن ما في الوجود.
تربية الأبناء على المحفظة النظيفة
إن أعظم إرث يمكن أن يتركه الآباء لأبنائهم ليس المال، بل هو الوعي بأهمية الكسب الحلال. كان هذا هو أكثر ما يؤرق أبا ياسر: الصورة التي سيرسمها في أعين أبنائه. فالأبناء لا يتعلمون بالوعظ والتلقين بقدر ما يتعلمون بالقدوة الصامتة. حين يرون والدهم يرفض مكسبًا مشبوهًا رغم حاجته، فإنهم يتعلمون درسًا في عزة النفس والنزاهة لن ينسوه ما حيوا.
لنبني هذا الحصن في بيوتنا، علينا أن:
- نتحدث عن قيمة العمل: يجب أن يفهم الأبناء أن المال لا يأتي بسهولة، بل هو نتاج جهد وتعب، وأن لكل ريال قيمته.
- نوضح الفرق بين الحلال والحرام: بأسلوب مبسط يناسب أعمارهم، يجب أن نغرس فيهم أهمية تحري مصادر الكسب الطيب.
- نكون قدوة في الأمانة: عندما نعيد مبلغًا زائدًا للبائع أمامهم، أو نلتزم بسداد ديوننا في وقتها، فإننا نقدم لهم درسًا عمليًا في النزاهة.
- نشجعهم على النزاهة في أمورهم الصغيرة: مكافأتهم على أمانتهم عندما يجدون شيئًا ويعيدونه، أو عندما يصدقون القول حتى لو كان ذلك ليس في مصلحتهم.
ثمار البركة: أبواب تُفتح حين تُغلق أبواب الحرام
بعد ليالٍ من الصراع، اتخذ أبو ياسر قراره الأصعب والأشجع. رفض العرض بشكل قاطع، موضحًا أن مبادئه لا تسمح بذلك. لم يكن القرار سهلًا، لكنه شعر براحة لم يشعر بها منذ أيام. والعجيب أن الفرج أتى من حيث لا يحتسب. فبعد أيام، تدخل أحد أقاربه وساعده في الوصول لجمعية خيرية تكفلت بعلاج ابنته.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد. فبعد فترة، وصلت سمعة أبي ياسر وأمانته إلى أحد المستثمرين الكبار الذي كان يبحث عن شخص موثوق لإدارة قسم المشتريات في مشروعه الجديد، فعُرض عليه منصب براتب ومزايا لم يكن يحلم بها. لقد أدرك أبو ياسر أن “صفقة العمر” الحقيقية ليست تلك التي تأتي بالمال السريع المشبوه، بل هي التمسك بالمبادئ الذي يفتح الله به أبواب الرزق والبركة.