قيمة التوازن المالي

المدونات

قيمة التوازن المالي

بوصلة الميزانية

 كيف تجد الاستقرار في عالم “اشترِ الآن وادفع لاحقاً”؟

كانت عبارة “سيتم خصم القسط الأول الشهر القادم” قد أصبحت الموسيقى التصويرية لحياة “سلطان” وزوجته “أمل”. كان كل شيء يبدو في متناول اليد؛ هاتف جديد لأمل، ساعة ذكية لسلطان، ألعاب إلكترونية للأبناء، وحتى تلك الأريكة الفاخرة التي لم تكن ضرورية لكنها “لا تُفوّت”. لقد أغرتهم سهولة الشراء بالتقسيط، وحولت قائمة “الرغبات” إلى قائمة “مشتريات” طويلة. لكن مع بداية كل شهر، كانت فرحة المقتنيات الجديدة تتلاشى أمام سيل الرسائل النصية التي تذكرهما بالأقساط المستحقة. أصبحا يشعران أن راتبهما يعمل لخدمة الماضي، لا لبناء المستقبل.

في إحدى الليالي، انفجر نقاش حاد بينهما بسبب رفض سلطان طلبًا بسيطًا لأمل. لم يكن السبب هو الطلب نفسه، بل الشعور بأن ميزانيتهما أصبحت خارج السيطرة. في تلك اللحظة، أدركا أن سهولة “الدفع لاحقًا” كانت تكلفهما راحة بالهما “الآن”. قررا أن الوقت قد حان لإيجاد “بوصلة” تعيد التوازن لسفينتهما المالية.

التوازن: فن المواءمة بين ما نملك وما نريد

إن ما مرت به أسرة سلطان هو التحدي الأكبر الذي يواجه الأسر اليوم. فالاقتصاد العالمي يلقي بظلاله علينا، ويقدم لنا إغراءات لا حصر لها، مما يجعل الحفاظ على التوازن المالي مهمة شاقة.

إن الإسلام، في نظرته الشاملة للمال، لم يجعله غاية، بل وسيلة لحياة كريمة ومستقرة. وقد وضع لنا مبدأين أساسيين في التعامل معه، كما جاء في الحديث الشريف الذي يخبرنا أن العبد سيُسأل عن ماله يوم القيامة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ وعن عِلمِهِ فيما فعلَ وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيما أنفقَهُ وعن جسمِهِ فيما أبلاهُ” [رواه الترمذي].

هذان السؤالان هما أساس التوازن. الأول يضمن “نزاهة الدخل”، والثاني يضمن “رشد الإنفاق”. والأسرة التي تنجح في المواءمة بين هذين الجناحين هي التي تحلق في سماء الاستقرار والطمأنينة. فالتوازن ليس مجرد عملية حسابية، بل هو حالة من الانسجام بين موارد الأسرة وأهدافها، يقيها من الاضطراب المالي الذي يؤثر سلبًا على كل جوانب حياتها الأخرى.

القيادة المالية المشتركة: من أنت وأنا إلى “نحن”

لا يمكن تحقيق التوازن بجهد فردي. يجب أن يكون الوالدان هما “قادة اقتصاد الأسرة”، وهذا يتطلب رؤية مشتركة وخطة متفقًا عليها. فالخلافات المالية بين الزوجين غالبًا ما تنبع من اختلاف تصوراتهما حول “الحاجات” و”الرغبات”. ما تراه الزوجة ضروريًا، قد يراه الزوج كماليًا، والعكس صحيح.

لذلك، فإن الخطوة الأولى نحو التوازن هي الجلوس معًا وتحديد:

  1. قائمة الضروريات (ما لا يمكن العيش بدونه): مثل الإيجار، الفواتير، مصاريف الغذاء الأساسية، وأقساط المدارس. هذه البنود لها الأولوية القصوى.
  2. قائمة التحسينات (ما يجعل حياتنا أفضل): مثل الاشتراك في نادٍ رياضي، أو شراء أجهزة منزلية جديدة، أو دروس إضافية للأبناء.
  3. قائمة الرغبات (ما نتمنى الحصول عليه): مثل السفر، أو تغيير السيارة، أو شراء سلع ترفيهية.

هذا التصنيف الواضح يحول النقاش من صراع حول الرغبات إلى حوار منظم حول الأولويات.

خطوات عملية نحو ميزانية متزنة

بعد وضع الأساس الفكري، تأتي الخطوات العملية التي تحول النية إلى واقع ملموس:

  • الميزانية المرنة: استخدموا طريقة بسيطة لتقسيم الميزانية الشهرية إلى ثلاثة أقسام: “ضروري” (يجب دفعه)، “ممكن” (يمكن شراؤه إذا سمحت الميزانية)، و”مؤجل” (يتم تأجيله حتى يتحسن الوضع أو يتم الادخار له).
  • الأهداف الواضحة: اتفقوا على هدف مالي كبير ومشترك (مثل دفعة أولى لمنزل). هذا الهدف سيصبح هو الدافع الأكبر لترشيد الإنفاق والادخار.
  • التسوق الذكي: دربوا أنفسكم وأبناءكم على فن مقاومة الإغراءات. قبل شراء أي شيء غير مخطط له، اسألوا أنفسكم: “هل هذا سيقربنا من هدفنا الأكبر أم سيبعدنا عنه؟”.
  • استغلال التقنية: استخدموا التطبيقات البنكية لإنشاء حسابات فرعية (حصالات إلكترونية) لأهداف مختلفة: حساب للإيجار، حساب للادخار، حساب للطوارئ. هذا التقسيم يمنع اختلاط الأموال ويجعل التحكم أسهل.

إن التوازن في الصرف هو ضرورة حتمية لتحقيق الاتزان في الحياة الأسرية. إنه يحررنا من القلق، ويمكّننا من مواكبة التغيرات الاقتصادية بثقة، ويجعل كل ريال يُدار بحكمة لبنة في بناء أسرة مستقرة ومجتمع مزدهر.

شارك المقالة الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Strong Testimonials form submission spinner.
rating fields