قيمة القناعة والشكر

المدونات

قيمة القناعة والشكر

محفظة تمتلئ بالشكر: كيف يغير الامتنان علاقتك بالمال؟

كانت هدى، مهندسة الديكور الشابة، تعيش في دوامة لا تنتهي. كل مساء، بعد أن ينام أطفالها، تجد نفسها تتصفح تطبيقات التواصل الاجتماعي، غارقة في صور صديقاتها ومعارفها: تلك اشترت حقيبة من ماركة عالمية، وأخرى تقضي إجازتها في وجهة أوروبية فاخرة، وثالثة جددت أثاث منزلها بالكامل. ومع كل صورة، كانت تشعر بوخزة من القلق وشعور بالنقص، على الرغم من أن دخلها وزوجها يعتبر جيدًا.

كانت هذه المشاعر تدفعها إلى التسوق الإلكتروني كمهرب، فتضيف إلى سلتها أشياء لا تحتاجها حقًا، مدفوعة بلذة الشراء العابرة التي سرعان ما يتبعها إحساس بالفراغ، وقلق أكبر عند رؤية كشف حساب البطاقة في نهاية الشهر. كانت تشعر أن المال ينساب من بين يديها، وأنها مهما عملت واجتهدت، لن تصل أبدًا إلى مستوى الرضا الذي تبحث عنه.

في أحد أيام الجمعة، ذهبت لزيارة جدتها في حيّهم القديم الهادئ. لفت انتباهها كيف أن بيت الجدة، رغم بساطته، يفيض بالسكينة والراحة. لم يكن هناك أثاث فاخر أو أجهزة حديثة، لكن كل شيء كان ينبض بالحياة. سألتها هدى: “جدتي، كيف تشعرين بكل هذا الرضا؟ ألا ترغبين في تغيير شيء هنا؟”. ابتسمت الجدة وقالت بحكمة: “يا ابنتي، الرضا لا يأتي من تغيير ما حولنا، بل من شكر ما بين أيدينا. البركة ليست في الكثرة، بل في الشكر. كل يوم أصحو وأحمد الله على نعمة العافية، وعلى سقف يأويني، وعلى محبتكم التي تملأ عليّ المكان”. هذا الشكر هو ما يجعل القليل كثيرًا.

من عدسة النقص إلى عدسة الوفرة

كانت كلمات الجدة بمثابة نقطة تحول لهدى. أدركت أنها كانت تنظر إلى حياتها من خلال “عدسة النقص”، تركز دائمًا على ما لا تملكه، وتقارن نفسها بالآخرين. هذا المنظور هو ما يغذي القلق المالي ويجعلنا في سباق لا ينتهي. القناعة، كما فهمتها من جدتها، ليست استسلامًا أو ضعفًا، بل هي قرار واعٍ بتغيير العدسة التي نرى بها العالم. إنها الرضا الداخلي التام بما هو موجود، والذي يحررنا من سجن المقارنات الاجتماعية.

عندما نمارس الشكر، نحن لا نغير واقعنا المادي فورًا، بل نغير علاقتنا به. نبدأ في تقدير النعم التي اعتدنا وجودها حتى أصبحت غير مرئية، وهذا بحد ذاته يولد شعورًا بالوفرة والغنى النفسي الذي لا يمكن للمال أن يشتريه.

“محفظة الشكر”: تمرين عملي لبركة يومك

عادت هدى إلى منزلها وفي ذهنها فكرة جديدة. اشترت دفترًا صغيرًا وأسمته “محفظة الشكر”. قررت أن تجعله تمرينًا يوميًا بسيطًا. كل صباح، وقبل أن تفتح هاتفها، كانت تدون ثلاثة أشياء بسيطة تشعر بالامتنان لوجودها: “فنجان القهوة الذي اشتراه لي زوجي”، “ضحكة ابنتي وهي تحكي لي عن يومها في المدرسة”، “رسالة من صديقة قديمة سألت عني”.

لم يقتصر الأمر على الكتابة. أصبحت هدى، قبل الضغط على زر “إتمام الشراء” لأي سلعة غير ضرورية، تتوقف للحظة وتتذكر دفترها. كانت تسأل نفسها: “هل هذا الشيء سيضيف إلى قائمة شكري غدًا، أم أنه سيضيف فقط إلى قائمة ديوني؟”. بشكل تدريجي وطبيعي، بدأت رغبتها في التسوق القهري تتلاشى، ليس شعورًا بالحرمان، بل شعورًا بالاكتفاء.

الزيادة الموعودة: كيف يُترجم الشكر إلى استقرار مالي؟

وعد الله تعالى واضح وصريح: {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]. هذه الزيادة لا تأتي دائمًا على شكل مكافأة مالية مباشرة كما في الأفلام. بل تتجلى في صور أعمق وأكثر استدامة:

  • البركة في الرزق: تلاحظ أن راتبك، الذي لم يتغير، أصبح يغطي احتياجاتك بشكل أفضل ويفيض منه القليل للادخار.
  • تغير الأولويات: الشكر يجعلك تقدر التجارب والعلاقات أكثر من الممتلكات، فتقل نفقاتك على الكماليات وتزيد استثماراتك في الذكريات السعيدة.
  • صفاء الذهن: العقل الشاكر هو عقل هادئ، أكثر قدرة على اتخاذ قرارات مالية حكيمة، ورؤية الفرص التي لم تكن واضحة وسط ضجيج القلق.
  • الرضا: وهو أعظم ثمار الشكر. الشعور بالرضا هو بحد ذاته ثروة حقيقية، تحمي الأسرة من الكثير من الضغوط والمشكلات.

بعد أشهر قليلة، نظرت هدى إلى كشف حسابها البنكي بدهشة. لأول مرة منذ سنوات، كان لديها فائض مالي استطاعت أن تضعه في صندوق للطوارئ. لم تكن قد حصلت على زيادة في الراتب، لكنها حصلت على ما هو أثمن: عقلية شاكرة، ومحفظة تمتلئ بالرضا والبركة.

شارك المقالة الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Strong Testimonials form submission spinner.
rating fields