سعادةٌ بالموجود، ووعيٌ بالمقصود
عالمٌ لا يتوقف عن العرض، وألسنة نار الأسعار تواصل الارتفاع، و يبدو الاكتفاء بما نملك وكأنه تراجع أو تأخر عن ركب التقدم.
لكن الحقيقة أعمق من ذلك…
القناعة ليست عجزًا، بل وعيٌ بالمقصود، وامتنانٌ لما هو موجود، ونظرة ناضجة للرزق، لا يفسدها ضجيج المقارنات.
بين تفاصيل الحياة في هذه البلاد الطيبة، وعلى أرضها التي جمعت أسرًا من جنسيات ولهجات وثقافات متنوعة، تبقى القيم الاقتصادية التربوية قاعدة مشتركة تُنشئ جيلاً يعرف كيف يعيش برضًا، ويصرف بحكمة.
وفي قلب هذه القيم… تبرز القناعة كمرتكز يعيد للأسرة توازنها وسط سطوة الإعلانات وإغراءات التوسّع.
قال رسول الله ﷺ:
“ارضَ بما قَسَمَ اللهُ لكَ تكُنْ أغْنَى الناسِ” (رواه الترمذي)
القناعة تسبق المال… وتُبقي البركة
فهي لا تعني ترك السعي، ولا رفض التحسين، بل تعني أن القلب لا يلهث خلف المزيد طمعاً، وأن العين لا تقيس قيمتها بما في أيدي الناس.
هي إحساس داخلي يُنشئ التوازن النفسي، ويمنع نزيف المال خلف رغبات لا تنتهي.
وهي، قبل أن تكون “قيمة مالية”، هي تعليم صامت في البيوت:يُرى في فرحة الطفل بهدية بسيطة، وتُسمع في قول الأم: “الحمد لله، يكفينا ما عندنا”، وتُحَس حين لا يُقارن الأبناء أنفسهم بأبناء الجيران
وفي السنوات الأخيرة، ازداد الحديث عن التغيّرات الاقتصادية داخل المملكة، من ارتفاع بعض الأسعار، إلى إعادة توزيع الإنفاق، إلى تنوّع الخيارات الاستهلاكية بشكل غير مسبوق.
ورغم التحديات، برز جانب مشرق: أسرٌ تعيد ترتيب أولوياتها، وأبناء يتربّون على تقييم الحاجيات قبل الشراء، وأمهات يقللن من الإسراف في التجهيز والتزيين…
نعم، إننا بطبعنا نكره المغالاة في الأسعار؛ولكن عسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيراً كثيرا فهذه ظواهر نبعت عن قناعة ناضجة اختارت أن تكون “البركة” هي المعيار لا “الكثرة”.
كيف نغرس القناعة داخل بيوتنا؟
- .الحديث عن النعم الموجودة لا النواقص
ليكن حديث المائدة عن “ما رزقنا الله” لا “ما لم نُوفّق في شرائه” أو “ما حصّلته أسرة فلان ولم ندركه نحن”. - .القدوة العملية
لا تنجذب لكل جديد، ولا تُظهر السخط على الراتب أو الوضع المالي أمام الأبناء. - .تقليل المقارنات
لا بأس أن يعرف الطفل أن غيره يملك أشياء أكثر، لكن الأهم معرفته أن السعادة ليست فيما نملك فقط، بل في شكر ما نملك. - .أنشطة تعليمية بسيطة
خصص مبلغًا صغيرًا لطفلك واطلب منه أن يُديره على مدار الأسبوع، وساعده على التمييز بين “الحاجة” و”الرغبة”. - تكرار مفهوم أن الشكر يحفظ الله به النعم، قال الله تعالى:
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ”} [ إبراهيم: 7]
ولا يكون الشكر إلا بعد القناعة والرضا!
قد يتسائل بعضهم؛ هل تناسب القناعة كل الطبقات؟
نعم، بل هي أشد ما تكون أهميةً للأسر متوسطة أو محدودة الدخل، لأنها:
- تُقلل من الضغط النفسي الناتج عن المقارنة
- تُساعد على ضبط الصرف وتنظيم الأولويات
- تُشيع جواً من الرضا والطمأنينة
- تُجنّب الدخول في دوّامة الديون
وهي بلا شك ضرورية للأسر ذات الدخل العالي، لأنها تحمي من الاستهلاكِ المفرط، والاعتيادِ على الكماليات واعتبارها ضروريات.
✦ ختامًا:
رَبّ أسرة يرى في كل زيادة فرصةً للتوسع، وآخر يرى في كل قناعة بابًا للرضا…
أما الحكيم، فيزن الأمور، ويُورث أبناءه قيمةً تبقى معهم أطول من المال نفسه.
قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: “قَدْ أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بما آتَاهُ”(رواه مسلم)
فلتكن هذه القيمة نَفَسًا يسري في حواراتنا، وممارسة تتكرر أمام الأبناء، وقرارًا واعيًا في كل مصروف.
لأننا حين نُربّي القناعة في بيوتنا، فإننا نُعدّ جيلاً يرى الثراء في السعادة بالموجود.