كثيرون يظنون أن المال لا يُناقَش مع الصغار، وأن الوعي المالي أمر معقّد لا يفهمه إلا الكبار.
لكن الحقيقة؟ أن أول خطوة نحو وعي مالي صحي، تبدأ غالبًا بسؤال بسيط من طفل، بعد صرف غير محسوب، قصة عائلية تُبسط المفهوم من جذوره.
بداية القصة:
في صباح أحد الأيام، جلس سلمان ذو السنوات التسع يراجع حصّالته بعد عطلة نهاية أسبوع مليئة بالمشتريات الصغيرة.
سأل أمه مستغربًا:
أمي، أين ذهب مالي؟ كنت أظن أن لدي أكثر!
ابتسمت الأم وقالت:
لأنك صرفته دون أن تنتبه، وهذا بالضبط ما يسمّى ضعفًا في الوعي المالي.
توقّف سلمان لحظة، ثم سأل بجدّية:
يعني، وش هو الوعي المالي؟ وهل هو شيء أتعلمه أنا؟ وهل أتعلمه من الحين؟
وهنا بدأ الحديث.
أولًا: ما هو الوعي المالي؟
قال الأب وهو يحتسي الشاي:
الوعي المالي، يا سلمان، هو أن تعرف قيمة المال، وتعرف كيف تتصرّف به. ليس فقط أن تعرف كم معك، بل أن تعرف كيف تُفكر فيه. وهو ليس مفهومًا حديثًا، بل أصلٌ راسخ في الثقافة الإسلامية.
قال تعالى: “ولا تبذر تبذيرًا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين”
ثم أكمل:
هو مثل البوصلة، تساعدك على الاختيار بين: أشتري الآن؟ أو أنتظر؟ أحتاج هذا؟ أم أرغب به فقط؟
ردّت الأم بلطف:
يعني عندما تذهب إلى البقالة وتشتري حلويات لأنها ذات لون جميل، ثم تكتشف أنك نسيت تشتري عصيرك المفضل الذي أتيت من أجله، فهذا تصرّف بلا وعي مالي.
ضحك سلمان وقال:
هذا اللي صار بالضبط، حتى نسيت أشتري الشيبس حقي!
ثانيًا: هل الوعي المالي للكبار فقط؟
سأل سلمان:
طيب هل الوعي المالي للكبار بس؟ والا أقدر أتعلمه أو أتدرب عليه؟
قال الأب:
لا يا بني. الوعي المالي يبدأ منذ الصغر. كل مرة تعطى فيها مبلغًا، وتختار كيف تنفقه، فأنت تتدرّب.
وأضافت الأم:
حتى حين تختار أن لا تصرف شيئًا، أو تؤجل مشتريات اليوم إلى فترة أخرى، يعتبر هذا من الوعي المالي. فالوعي المالي ليس كم معك، بل كيف تُفكر بما معك.
ثالثًا: ما الفرق بين أحتاج وأرغب؟
سأل سلمان:
لكن أحيانًا أبغى أشياء كثير، فكيف أعرف الفرق؟
أجابه الأب بابتسامة:
الاحتياج هو شيء لو لم تحصل عليه ستتضرر. مثل وجبة الغداء. أما الرغبة، فهي شيء تريده، لكن يمكنك الاستغناء عنه، مثل قطعة حلوى ثانية.
قالت الأم:
الواعون ماليًا، لا يمنعون أنفسهم من كل شيء، لكنهم يعرفون متى يشترون، ومتى ينتظرون.
رابعًا: ما هو الادخار؟ وهل يعني أن أعيش بحرمان؟
رفع سلمان حاجبيه وقال:
يعني اللي ما يصرف كثير، هذا أحسن واحد؟ واللي ما يشتري أبد، هذا أحسن من اللي يشتري كل شيء؟
أجابه الأب:
ليس بالضرورة. الادخار لا يعني أن تحرم نفسك، بل أن تحترم مالك، وتُخصص جزءًا منه للمستقبل. فالمشكلة ليست في كم نملك، بل في كيف نستخدم ما نملك. وهنا تبدأ أهمية الوعي المالي، يا سلمان. كثير من الناس يمرّون بنفس الموقف، ولهذا السبب تنتشر مشكلة ضعف الادخار.
ثم أضاف:
حسب إحصائية سابقة، فإن معدل الادخار لدى الأسر السعودية لا يتجاوز 2.4٪ من دخلها، وهو رقم منخفض جدًا مقارنة بالمعدلات العالمية. وهذا ما يجعل الوعي المالي ضرورة وليس ترفًا.
لذلك، من المهم أن نتعلم كيف ندخر جزءًا من دخلنا، حتى نتمكن من تحقيق أهدافنا المستقبلية.
قالت الأم:
الادخار هو أن تقول لمالك: لا أريد أن أستخدمك الآن، بل أحتاجك لاحقًا، مثلما تأخذ زادًا لرحلة طويلة، لست جائعًا الآن، لكنك حتمًا ستحتاجه لاحقًا.
لهذا نبدأ من الآن، لنتعلم كيف نتحكم في قراراتنا المالية، لا أن نترك المال يتحكم بنا.
ثم همست وكأنها سرّ:
حتى السعادة، تحتاج إلى خطة مالية.
خامسًا: كيف أبدأ الادخار وأنا صغير؟
قال سلمان بحماس:
أنا قررت! من الحين بأوفر! بس، كيف أبدأ؟ ومن أين؟
ردّت الأم:
ابدأ من حصالتك. اجعل جزءًا لما تحب، وجزءًا لما تحتاج، وجزءًا لا تمسه إلا إذا اضطررت.
ثم رسم الأب دائرة على ورقة، وكتب داخلها:
- 50٪ للأشياء الأساسية
- 30٪ للأشياء التي تُسعدك
- 20٪ للادخار
وقال له:
هذه ليست قاعدة صارمة، لكنك إن فهمت فكرتها، ستكون أذكى مما تتصور.
مقتصد يوضح لك:
الوعي المالي ليس معلومات تحفظها، بل عادات تمارسها. تبدأ من أصغر المواقف، وتنمو مع كل قرار، والادخار لا يعني أن تُطفئ فرحتك، بل أن تجعلها مستمرة.
وفي نهاية الحوار، قرر سلمان أن يُعيد ترتيب حصّالته، ويُلصق عليها ورقة صغيرة كتب فيها:
فكّر قبل أن تصرف، وساعد نفسك في المستقبل من الآن.
ابتسم الأبوان، وقالا له بصوت واحد:
هكذا تبدأ أول خطوة نحو الوعي المالي.
خاتمة
كم من سلمان بيننا؟ وواجبنا توجيهه وتأسيسه وتوعيته ماليا، فالوعي المالي لا يبدأ من الراتب، ولا من أول وظيفة، بل من أول مبلغ يقع بين يديك. وكلما بدأت مبكرًا، كانت عادتك المالية أقوى، وحياتك المستقبلية أكثر استقرارًا.
لا تنتظر الظروف كي تتغير، ابدأ بالتفكير، وكل شيء سيتغيّر من بعدها.