
جارك سندك: قوة التكافل الاقتصادي
فقد “أبو محمد” وظيفته في القطاع الخاص بشكل مفاجئ. كان الخبر كالصاعقة على الأسرة. لديه مدخرات بسيطة لا تكفي لأكثر من ثلاثة أشهر، والتزاماته الشهرية من إيجار وأقساط مدارس وفواتير لا ترحم. كان رجلاً عزيز النفس، لم يعتد طلب المساعدة من أحد، فأحاط نفسه وأسرته بسياج من الكتمان، محاولاً حل مشكلته بمفرده. لكن ثقل الهم كان ظاهرًا على وجهه، وفي صمته الطويل أثناء جلسات الشاي مع جيرانه في المسجد.
لاحظ جاره “أبو فيصل” أن سيارة أبي محمد لم تعد تتحرك من مكانها إلا للضرورة القصوى، وأنه أصبح أكثر شحوبًا وقلقًا. لم يسأله مباشرة ليحرجه، بل بادر بطرق بابه في أحد الأيام قائلاً: “يا أبو محمد، سمعت عن وظيفة شاغرة في شركة صديق لي، وتذكرتك فورًا، هل تسمح لي أن أرسل لهم سيرتك الذاتية؟”. في نفس الوقت، لاحظت زوجة أبي فيصل أن “أم محمد” تبدو مهمومة، فبادرت بزيارتها، وأحضرت معها طبقًا من الحلوى قائلة: “صنعت الكثير اليوم، وتذكرتكم”. لم تكن هذه المبادرات مجرد “فزعة” عابرة، بل كانت خيوطًا من سند مجتمعي تُنسج بهدوء للحفاظ على كرامة جارهم.
التكافل: من “الفزعة” العابرة إلى السند الدائم
في ثقافتنا السعودية الأصيلة، تمثل “الفزعة” – وهي المبادرة العفوية لمساعدة شخص في مأزق – قيمة نبيلة وعظيمة. لكن التكافل الإسلامي هو مفهوم أعمق وأكثر استدامة. إنه ليس مجرد ردة فعل لحظية، بل هو نظام متكامل من الدعم المتبادل الذي يحمي أفراد المجتمع ويجعلهم كالجسد الواحد، كما وصفهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى” [رواه البخاري].
التكافل هو أن تشعر بحاجة أخيك قبل أن يتكلم، وأن تبادر بالعون بطريقة تحفظ ماء وجهه. إنه الوعي بأن قوة المجتمع تكمن في تماسك أفراده، وأن الأمان الحقيقي لا يأتي من الأرصدة البنكية الفردية فحسب، بل من شبكة العلاقات الإنسانية الداعمة التي تحيط بكل أسرة. في عالم اليوم المليء بالتقلبات الاقتصادية، لم يعد التكافل ترفًا أخلاقيًا، بل أصبح ضرورة وحصن أمان اقتصادي للجميع.
أشكال التكافل في مجتمعنا الحديث
قد يظن البعض أن التكافل يقتصر على المساعدات المالية المباشرة، لكن صوره أوسع وأشمل، ويمكن لكل فرد في المجتمع أن يساهم فيه حسب قدرته وموقعه، تمامًا كما فعل جيران أبي محمد:
- التكافل بالخبرة والشبكة الاجتماعية: كما فعل أبو فيصل، فإن استخدام معارفك وعلاقاتك المهنية لمساعدة شخص يبحث عن عمل هو من أعظم صور التكافل، لأنه لا يعطيه سمكة، بل يعلمه كيف يصطاد.
- التكافل بالموارد: قد يكون طبق طعام، أو المساعدة في توصيل الأبناء للمدرسة، أو عرض أحد الجيران الذي يعمل محاسبًا لمساعدة جاره في ترتيب ميزانيته. هذه المساعدات العينية البسيطة تخفف الكثير من الأعباء المادية والنفسية.
- التكافل المعنوي: أحيانًا، كل ما يحتاجه الشخص هو أذن صاغية وكلمة طيبة. السؤال عن الحال، والدعاء بظهر الغيب، وإظهار الاهتمام، كلها أشكال من الدعم الذي يعيد شحن الهمم ويبعث على الأمل.
- التكافل المنظم: تتطور هذه المبادرات الفردية أحيانًا لتأخذ شكلاً منظمًا، كإنشاء “صندوق للعائلة” أو “صندوق لأهل الحي”، يتم من خلاله جمع اشتراكات بسيطة لمواجهة الحالات الطارئة والكبيرة، مثل ترميم منزل أو المساعدة في تكاليف علاج باهظة.
بعد أشهر من البحث والمساندة الهادئة من جيرانه، وجد أبو محمد وظيفة جديدة. لقد تعلم درسًا لن ينساه: أن عزة النفس لا تتعارض مع قبول سند إخوانه وجيرانه، وأن كتمان الأزمة يزيدها تعقيدًا. أصبحت أسرته بعد هذه التجربة هي الأكثر مبادرة في تفقد أحوال الجيران، مدركين تمامًا أن السند الذي قدم لهم يومًا، يجب أن يمتد لغيرهم اليوم.
إن التكافل ليس نظامًا للفقراء، بل هو نظام للمجتمع كله، فالجميع معرض للظروف الطارئة. وبتقوية هذه الروابط في أحيائنا وعائلاتنا، فإننا لا نبني مجرد علاقات طيبة، بل نبني حصنًا ماليًا واجتماعيًا منيعًا، لا يترك أحدًا يواجه صعوبات الحياة وحيدًا.