
محفظة لا تفرغ: كيف يفتح العطاء أبواب الرزق؟
تسلم خالد أول راتب كامل له بعد الزواج. جلس مع زوجته سارة في شقتهما الصغيرة المستأجرة في الرياض، وبدأ كلاهما في توزيع المبلغ على بنود لا تنتهي: الإيجار، فواتير الكهرباء والماء، أقساط السيارة، ومصروفات المنزل. بعد أن انتهيا، نظر كل منهما إلى الآخر بقلق. المبلغ المتبقي بالكاد يكفي لنهاية الشهر. همست سارة: “كنت أتمنى أن نخصص جزءًا ولو بسيطًا كصدقة، كما تعودنا في بيوت أهالينا”. تنهد خالد قائلاً: “الفكرة في بالي، لكن كيف؟ بالكاد استطعنا تغطية الأساسيات!”.
هذا الحوار ليس غريبًا، بل هو واقع تعيشه الكثير من الأسر الشابة التي تبدأ حياتها. في خضم الضغوط المالية، يبدو العطاء ترفًا لا يمكن تحمله، بينما هو في حقيقته صمام أمان وبركة، وأول خطوة نحو الاستقرار النفسي والمادي.
استثمار لا يخسر أبدًا
كثيرًا ما نتعامل مع الصدقة بمنطق النقص، فنحن “نُخرج” من أموالنا جزءًا، لكننا ننسى أننا نودعه في استثمار مضاعف ومضمون مع الله. يعلّمنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قاعدة اقتصادية إيمانية ثابتة حين قال: “”ما نَقَصَتْ صَدَقةٌ مِن مالٍ، وما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، وما تَواضَعَ أحَدٌ للَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ” [رواه مسلم]. فالمال الذي يُعطى في سبيل الله لا ينقص حقًا، بل يفتح أبوابًا للبركة قد لا نراها في كشف الحساب البنكي مباشرة، لكننا نلمسها في تيسير أمورنا، وفي راحة البال التي لا تقدر بثمن، وفي صرف أبواب من المصاريف غير المتوقعة كانت ستلتهم أضعاف مبلغ الصدقة.
التربية بالعطاء: درس أثمن من المال
إن الأثر الأعمق للعطاء يظهر في تربية الأبناء. حين يرى الطفل والديه يقتسمان ما لديهما مع محتاج، أو يشاركان في مبادرة خيرية، فإنه يتعلم درسًا لا تستطيع آلاف المحاضرات أن تعلمه إياه: أن القيمة الحقيقية ليست في الامتلاك، بل في المشاركة، وأن العطاء ليس حكرًا على الأغنياء.
وهنا يجب أن نسأل أنفسنا كمربين:
- هل يراني أبنائي وأنا أقدم العون للآخرين، أم يسمعونني دائمًا أتحجج بأن “أولادنا أولى”؟
- هل أشركتهم يومًا في اختيار كسوة عيد لطفل يتيم أو تجهيز سلة غذائية لأسرة محتاجة؟
- هل سمعوني أقول: “هذا المبلغ فيه بركة لأنه سيذهب لمن يستحقه”؟
إن الإجابات على هذه الأسئلة تشكل الوعي المالي والقيمي لأبنائنا. فالطفل الذي ينشأ على البذل، يكبر ليصبح شابًا مسؤولًا، لا تستهلكه الماديات، ولا يستعبده القلق من المستقبل.
من النظرية إلى الواقع: خطوات صغيرة لأثر كبير
لا يتطلب غرس قيمة العطاء ميزانية ضخمة، بل نية صادقة وممارسة عملية بسيطة ومستمرة. يمكنك البدء اليوم بتطبيق أفكار مثل:
- صندوق العطاء الأسري: حصالة صغيرة يشارك فيها كل أفراد الأسرة بمبالغ رمزية، وفي نهاية الشهر يقررون معًا أين تذهب.
- عطاء من نوع آخر: ليس كل العطاء مالًا. شجعوا أبناءكم على التبرع بألعابهم وملابسهم التي لم يعودوا يستخدمونها.
- ربط العطاء بالمناسبات: اجعلوا من شهر رمضان أو بداية العام الدراسي فرصة لمبادرات خيرية صغيرة، كشراء حقيبة مدرسية لطالب محتاج.
حينها سيفهم أبناؤنا معنى قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92]، فالبِر الحقيقي لا يُنال إلا بالبذل مما له قيمة في قلوبنا.