“الأب الغني والأب الفقير”، “أسرار عقل المليونير”، “فكر وازدد ثراء” هي عناوين الكتب التي أحدثت زخمًا كبيرًا في السنوات الأخيرة لكل من يرغب في التخلص من “الأمية المالية”، ويكتسب بالمقابل “ثقافة مالية”.
قد تكون من بين هؤلاء الأشخاص الذين قرؤوا هذه الكتب لتتثقّف ماليًا، لكن لربما أبناؤك ما زالوا يتعاملون مع المال كأنه ألعاب نارية تحترق بسرعة. حسنا، المشكلة ليست في الكتب، المشكلة أن أبناؤنا قد لا يقرؤونها، فبالنهاية ليس الجميع يحب المحاضرات.
إذن كيف تصنع ثقافة مالية في بيتك دون محاضرات؟ هذا ما ستتعلمه في هذا المقال لتصنع من بيتك “دورة مالية مصغرة” دون تنظير.
الثقافة المالية تُكتسب ولا تُلقّن
لا أحد يجلس مع طفل ويشرح له قواعد النحو، لكنه يسمع الكلمات حوله فيبدأ بترديدها. الأمر سيّانٌ مع المال.
مناقشة الأمور المالية دون تذمّر وشكوى أمام الأبناء يُمكّنهم من التقاط مفاهيم مالية والاحتفاظ بها في عقولهم، ويبنون عليها تصوراتهم المالية.
فمثلا عندما تقول “هذا الشهر كان صعباً لكن الشهر القادم سيكون أفضل بإذن الله”، سيتعلم الطفل أن الحياة المالية لها إيقاع؛ وستكون هناك شهور جيدة وأخرى صعبة.
حوّل مشاكلك المالية إلى تحديات عائلية
بدلاً من أن تصبح المشاكل المالية عبئاً على الوالدين حوّلها إلى لعبة أو فعالية عائلية ممتعة. أجل ما قرأته صحيح تماما.
لكن كيف؟ سؤالك في محله. لنفترض أن فاتورة الكهرباء مرتفعة هذا الشهر. اجعل منها تحدِّ عائلي شهري.”من يجد طريقة لتوفير 100 ريال من فاتورة الكهرباء هذا الشهر يختار مكان الخروج لهذا الأسبوع أو وجبة هذا الأسبوع”. قد يقترح الطفل الصغير إطفاء الأنوار، بينما الأكبر سيفكر في تقليل التكييف، في حين سيبحث المراهق عبر الإنترنت عن طرق توفير الطاقة.
النتيجة؟ أبناء يشعرون أنهم جزء من الحل، وليس المشكلة. يبدؤون بالتفكير في توفير المال تلقائياً. يراقبون استهلاكهم، يقترحون حلولاً إبداعية، ويتعلمون أن المشاكل المالية قابلة للحل بالتفكير الجماعي.
علّم طفلك أن المال ليس مجرد أرقام
“أنا مو جالس على بنك” واحدة من العبارات الشهيرة التي ربما ترددت كثيرا على مسامعك من والدك حينما كنت صغيرا، وقد لا يزال يرددها بعض آباء اليوم أيضا.
لكنها ليست طريقة مثلى لتصنع ثقافة مالية أبدا. لذا حينما يُطلب منك شيئاً مكلفاً وبدلا من اللجوء إلى جملة “أنا مو جالس على بنك”، اجلس مع طفلك مثلا واحسب التكلفة الحقيقية. “هذه اللعبة بـ 500 ريال، بابا يعمل 4 ساعات ليجمع 500 ريال. يعني 4 ساعات من عمر بابا مقابل هذه اللعبة، تستحق؟”
لن يرى الطفل حينها السعر مجرد رقم وفقط، بل سيرى وقت أبيه وجهده. سيفهم أن كل ريال يكلف دقائق من حياة الإنسان.
هذا الدرس البسيط يعلمه احترام المال، وأن كل شراء يعني تضحية بوقت وجهد.
اصنع من طفلك مشروع”رجل أعمال صغير”
المقصود ليس أن تعلمه دروسا في ريادة الأعمال، بل أن تزرع فيه روح ريادة الأعمال دون أن يشعر. تجربة واحدة بسيطة كفيلة بزرع هذه البذرة فيه وهي:
ابدأ بخطوة صغيرة: اجمع معه أشياءه القديمة التي لم يعد يستخدمها، كالدراجة الصغيرة أو بعض الألعاب أو الكتب، واتفقا على عرض بعضها للبيع.
ليس بالضرورة أن يكون البيع على موقع إلكتروني؛ يمكن أن يكون بين الأصدقاء، أو في تجمع عائلي، أو حتى كتجربة تمثيلية داخل المنزل.
عندما يرى المال وهو يدخل جيبه مقابل شيء لم يعد يريده وكان مرمياً في الغرفة، سيفهم أن الأشياء لها قيمة حقيقية. وسيتعلم أن المال لا يأتي لا من الطلب فقط، بل من تقديم قيمة للآخرين.
هذه التجربة البسيطة تعلمه مبادئ البيع والشراء. وأن المال يُكسب بالذكاء والجهد بعد التوكل على الله، وليس دائما بالطلب من الوالدين.
اجعل أهل بيتك شركاء في القرارات المالية
أشرك عائلتك في قرارات مالية حقيقية، حتى لو كانت صغيرة. هذا يعلّمهم أن المال موضوع عائلي، وليس قرارا فرديا.
“معنا 200 ريال إضافية هذا الأسبوع، نشتري بيتزا للعائلة، أم نضعها في صندوق الرحلة الصيفية أو سفرية الصيف؟” اتركهم يناقشوا ويختاروا.
كل اختيار يعني التخلي عن شيء آخر، ويتعلمون أن الأولويات مهمة.
كن القدوة المالية الصحية
وأخيرا بالرغم من أهمية كل ما قيل أعلاه، إلا أنه تبقى أهم طريقة لصنع ثقافة مالية في بيتك هي أن تكون نموذجاً صحياً للتعامل معه. الأطفال يقلدون أكثر مما يسمعون.
لا تشتكِ من المال أمامهم بطريقة سلبية. لا تقل “نحن فقراء” أو “المال قليل دائماً”.
بل أشركهم في الفرحة عندما تحقق هدفاً مالياً. سترسّخ في أذهانهم أن المال مصدر للإنجاز والفخر، ليس للقلق والخوف.
موقفك من المال سيصبح موقفهم. كلامك عن المال سيصبح كلامهم. طريقة تعاملك مع المال ستصبح طريقتهم. بعبارة أخرى “كن ثقافة مالية على حالها” وهذا أقوى من مليون محاضرة.
من “مقتصد” إليك…
نحن لا نقدّم وصفات سريعة، ولا نرفع شعارات فارغة. في “مقتصد”، نؤمن أن الثقافة المالية تبدأ من البيت، وأن التربية المالية لا تحتاج إلى محاضرات، بل إلى مواقف تُعاش، وقيم تُمارس.
هذا المقال جزء من رؤيتنا لبناء وعي مالي متين، يبدأ من العائلة، ويثمر في كل شيء.
ختاما
الثقافة المالية لا تُبنى بالوعظ، بل بالممارسة. لا تُغرس بالكلام، بل بالقدوة. لا تُشرح، بل تُعاش.
هي ليست درسًا مدرسيًا، بل مسارًا يوميًا يتشكل مع المواقف الصغيرة والممارسات اليومية.
لن يتذكر أبناؤك المحاضرات عن المال، لكنهم سيتذكرون تلك الفرحة حين وفّروا مبلغًا لرحلة الصيف، وكيف تحوّلت المشكلة إلى لحظة عائلية ممتعة.
الوعي المالي ليس موضوعًا منفصلًا عن التربية، بل هو تربية بحد ذاته، فكن الثقافة المالية التي تريد غرسها في بيتك، فالتقليد أقوى من ألف تعليم.